دلالات خلافة الصديق رضي الله عنه 6
~*~*~*~*~*~*~*~*~*~*~*~*
تقديم النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر
ليصلي بالناس.
لمَّا ثَقُلَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ
عليهِ وسلمَ ، جاء بلالٌ يُؤْذِنُهُ بالصلاةِ ، فقالَ : مُرُوا أبَا بكرٍ أن
يصلِّيَ بالناسِ . فقلتُ : يا رسولَ اللهِ ، إنَّ أبَا بكرٍ رجلٌ أسِيفٌ ، وإنَّهُ
متَى ما يَقُمْ مقَامَكَ لا يُسْمِعُ الناسَ ، فلَو أمَرْتَ عمرَ ، فقالَ : مُروا
أبا بكرٍ يصلِّي بالناسِ . فقلتُ لحَفْصَةَ : قولِي لَهُ : إنَّ أبَا بكرٍ رجلٌ
أسِيفٌ ، وإنَّهُ متَى يَقُمْ مَقَامَكَ لا يُسمِعُ الناسَ ، فلَو أمرتَ عمرَ ،
قالَ : إنَّكُنَّ لأنتُنَّ صوَاحِبُ يوسفَ ، مُروا أبا بكرٍ أن يصلِّيَ بالناسِ .
فلمَّا دخلَ في الصلاةِ ، وجدَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في نفسِهِ
خِفَّةً ، فقامَ يُهَادَى بين رجلينِ ، ورِجْلاهُ تَخُطَّانِ في الأرضِ ، حتى دخلَ
المسجِدَ ، فلمَّا سمعَ أبو بكرٍ حِسَّهُ ، ذهبَ أبو بكرٍ يتَأَخَّرُ ، فأومَأَ
إليهِ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ ، فجاءَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ
وسلمَ حتى جلسَ عن يسارِ أبي بكرٍ ، فكانَ أبو بكرٍ يصلِّي قائمًا ، وكان رسولُ اللهِ
صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ يصلِّي قاعِدًا ، يَقْتَدِي أبو بكرٍ بصلاةِ رسولِ اللهِ
صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ ، والناسُ مقْتَدُونَ بصلاةِ أبي بكرٍ رضيَ اللهُ عنهُ (1) .
وفي رواية
مرِضَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
فاشتَدَّ مرضُه، فقال : مُروا أبا بكرٍ فلْيصلِّ بالناسِ . قالتْ عائشةُ : إنه
رجلٌ رقيقٌ، إذا قام مَقامَك لم يستطِعْ أن يصليَ بالناسِ . قال : مُروا أبا بكرٍ
فلْيصلِّ بالناسِ . فعادَتْ فقال : مُري أبا بكرٍ فلْيصلِّ بالناسِ، فإنكنَّ
صَواحِبُ يوسُفَ . فأتاه الرسولُ، فصلَّى بالناسِ في حياةِ النبيِّ صلَّى اللهُ
عليه وسلَّم .(2)
وفي أخرى
لما استُعِزَّ (أي اشتد مرضه ) برسولِ
اللهِ صلى الله عليه وسلم ، وأنا عندَه في نفرٍ مِن المسلمين ، دعاه بلالٌ إلى
الصلاةِ ، فقال : مروا مَن يصلي للناسِ ، فخرج عبدُ اللهِ بنُ زَمْعَةَ ، فإذا
عمرُ في الناسِ ، وكان أبو بكر غائبًا ، فقلتُ : يا عمرُ ، قمْ فصلِّ بالناسِ ،
فتقدَّمَ فكبَّرَ ، فلما سَمِعَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم صوتَه ، وكان عمرُ
رجلًا مُجْهِرًا ؛ قال : فأين أبو بكرٍ ؟ يأبى اللهُ ذلك والمسلمون ! يأبى اللهُ
ذلك والمسلمون! فبعثَ إلى أبي بكرٍ، فجاء بعدَ أن صلى عمرُ تلك الصلاةَ فصلَّى
بالناسِ.(3)
قال الخطابي في معالم السنن وفي الخبر
دليل على خلافة أبي بكر رضي الله عنه وذلك أن قوله صلى الله عليه وسلم (يأبى الله
ذلك والمسلمون ) معقول منه أنه لم يرد به نفي جواز الصلاة خلف عمر فإن الصلاة خلف
عمر رضي الله عنه ومن دونه من المسلمين جائزة ، وإنما أراد به الإمامة التي هي
دليل الخلافة والنيابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في القيام بأمر الأمة بعده
.(أ.هــ) .هامش صفحة 48 الكتاب
وفي أخرى
لمَّا قُبِضَ رسولُ اللَّهِ - صلَّى
اللَّه عليهِ وعلى آلِهِ وسلَّمَ - قالتِ الأنصارُ: منَّا أميرٌ وَمِنْكُم أميرٌ.
فأتاهم عمرُ فقالَ: ألستُمْ تعلمونَ أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّه عليهِ وعلى
آلِهِ وسلَّمَ قد أمرَ أبا بَكْرٍ أن يصلِّيَ بالنَّاسِ ، فأيُّكم تَطيبُ نفسُهُ
أن يتقدَّمَ أبا بَكْرٍ ؟ قالوا نعوذُ باللَّهِ أن نتقدَّمَ أبا بَكْرٍ(4)
عن عمر موقوف رضي الله عنه
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : قَالَ
عُمَرُ : " لأَنْ أُقَدَّمَ فَتُضْرَبَ عُنُقِي أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ
أَتَقَدَّمَ قَوْمًا فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ " .
صححه الشيخ موقوفاً على عمر رضي الله عنه
.
إشارات أخرى من رسول الله صلى الله عليه
وسلم
تدل على خلافة الصديق .
أتَتِ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
امرأةٌ فكلَّمَتْه في شيءٍ ، فأمَرَها أن تَرجِعَ إليه ، قالتْ : يا رسولَ اللهِ ،
أرأيتَ إن جئتُ ولم أجِدْك ؟ كأنها تريدُ الموتَ ، قال : ( إن لم تَجِديني فأتي
أبا بكرٍ ) (5)
وفي رواية
قالتْ عائشةُ رضي الله عنها : وارأساهْ ،
فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : ( ذاك لو كانَ وأنا حَيٌّ
فأسْتَغْفِرُ لك وأدْعُو لك ) . فقالتْ عائشة : واثُكْلِياهْ، واللَّهِ إني
لأظُنُّكَ تُحِبُّ مَوْتِي، ولو كان ذاك، لَظَلَلْتَ آخِرَ يَوْمِكَ مُعَرِّسًا
بِبَعْضِ أزْواجِكَ، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : ( بل أنا وارأْساهْ ،
لقد هَمَمْتُ ، أو أردتُ ، أن أُرسلَ إلى أبي بكرٍ وابنهِ فأعهدَ ، أنْ يقول
القائِلونَ أو يَتَمَنَّى المُتَمَنُّونَ ، ثم قُلْت : يأبَى اللهُ ويَدفعُ
المؤمنونَ ، أو : يَدفعُ اللهُ ويأبَى المؤمنونَ ) .(6)
شرح الحديث فتح الباري شرح صحيح البخاري
.
قوله : ( وارأساه ) هو تفجع على الرأس لشدة ما وقع به من ألم
الصداع ، وعند أحمد والنسائي وابن ماجه من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن
عائشة " رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جنازة من البقيع فوجدني
وأنا أجد صداعا في رأسي وأنا أقول : وارأساه " .
قوله : ( ذاك لو كان وأنا حي ) ذاك بكسر الكاف إشارة إلى ما يستلزم
المرض من الموت ، أي لو مت وأنا حي ، ويرشد إليه جواب عائشة ، وقد وقع مصرحا به في
رواية عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ولفظه ثم قال : ما ضرك لو مت قبلي فكفنتك ثم
صليت عليك ودفنتك وقولها " واثكلياه " بضم المثلثة وسكون الكاف وفتح
اللام وبكسرها مع التحتانية الخفيفة وبعد الألف هاء للندبة ، وأصل الثكل فقد الولد
أو من يعز على الفاقد ، وليست حقيقته هنا مرادة ، بل هو كلام كان يجري على ألسنتهم
عند حصول المصيبة أو توقعها . وقولها " والله إني لأظنك تحب موتي "
كأنها أخذت ذلك من قوله لها لو مت قبلي وقولها " ولو كان ذلك " في رواية
الكشميهني " ذاك " بغير لام أي موتها " لظللت آخر يومك معرسا
" بفتح العين والمهملة وتشديد الراء المكسورة وسكون العين والتخفيف ، يقال
أعرس وعرس إذا بنى على زوجته ، ثم استعمل في كل جماع ، والأول أشهر ، فإن التعريس
النزول بليل . ووقع في رواية عبيد الله " لكأني بك والله لو قد فعلت ذلك لقد
رجعت إلى بيتي فأعرست ببعض نسائك . قالت : فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وقوله بل أنا وارأساه هي كلمة إضراب ، والمعنى : دعي ذكر ما تجدينه من وجع رأسك
واشتغلي بي ، وزاد في رواية عبيد الله " ثم بدئ في وجعه الذي مات فيه - صلى
الله عليه وسلم - " .
قوله : ( لقد هممت أو أردت ) شك من الراوي
، ووقع في رواية أبي نعيم أو وددت بدل أردت .
قوله : ( أن أرسل إلى أبي بكر وابنه ) كذا
للأكثر بالواو وألف الوصل والموحدة والنون ، ووقع في رواية مسلم أو ابنه بلفظ أو
التي للشك أو للتخيير ، وفي أخرى أو آتيه بهمزة ممدودة بعدها مثناة مكسورة ثم
تحتانية ساكنة من الإتيان بمعنى المجيء ، والصواب الأول ، ونقل عياض عن بعض
المحدثين تصويبها وخطأه . وقال : ويوضح الصواب قوله في الحديث الآخر عند مسلم ادعي
لي أباك وأخاك وأيضا فإن مجيئه إلى أبي بكر كان متعسرا لأنه عجز عن حضور الصلاة مع
قرب مكانها من بيته . قلت : في هذا التعليل نظر ، لأن سياق الحديث يشعر بأن ذلك
كان في ابتداء مرضه - صلى الله عليه وسلم - ، وقد استمر يصلي بهم وهو مريض ويدور
على نسائه حتى عجز عن ذلك وانقطع في بيت عائشة . ويحتمل أن يكون قوله - صلى الله
عليه وسلم - لقد هممت إلخ وقع بعد المفاوضة التي وقعت بينه وبين عائشة بمدة ، وإن
كان ظاهر الحديث بخلافه . ويؤيد أيضا ما في الأصل أن المقام كان مقام استمالة قلب
عائشة ، فكأنه يقول : كما أن الأمر يفوض لأبيك فإن ذلك يقع بحضور أخيك ، هذا إن
كان المراد بالعهد العهد بالخلافة ، وهو ظاهر السياق كما سيأتي تقريره في كتاب
الأحكام إن شاء الله - تعالى - ، وإن كان
لغير ذلك فلعله أراد إحضار بعض محارمها
حتى لو احتاج إلى قضاء حاجة أو الإرسال إلى أحد لوجد من يبادر لذلك .
[ ص: 131 ] قوله : ( فأعهد ) أي أوصي .
قوله : ( أن يقول القائلون ) أي لئلا يقول
، أو كراهة أن يقول .قوله : ( أو يتمنى المتمنون ) بضم النون جمع متمني بكسرها ،
وأصل الجمع المتمنيون فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت فاجتمعت كسرة النون بعدها
الواو فضمت النون ، وفي الحديث ما طبعت عليه المرأة من الغيرة ، وفيه مداعبة الرجل
أهله والإفضاء إليهم بما يستره عن غيرهم ، وفيه أن ذكر الوجع ليس بشكاية ، فكم من
ساكت وهو ساخط ، وكم من شاك وهو راض ، فالمعول في ذلك على عمل القلب لا على نطق
اللسان ، والله أعلم .(7)
~*~*~*~*~*~*~*~*~*~*~*~*
(1) الراوي: عائشة أم المؤمنين المحدث:
البخاري - المصدر: صحيح البخاري- الصفحة أو الرقم: 713خلاصة حكم المحدث – صحيح.
(2) الراوي: أبو موسى الأشعري عبدالله بن قيس- المحدث:
البخاري - المصدر: صحيح البخاري -الصفحة أو الرقم: 678خلاصة حكم المحدث: [صحيح].
(3) الراوي: عبدالله بن زمعة المحدث: الألباني - المصدر:
صحيح أبي داود - الصفحة أو الرقم: 4660 - خلاصة حكم المحدث: حسن صحيح.
(4) الراوي: عبدالله بن مسعود المحدث: الوادعي - المصدر:
الصحيح المسند - الصفحة أو الرقم: 854 - خلاصة حكم المحدث: حسن
(5)الراوي: جبير بن مطعم المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري
- الصفحة أو الرقم: 7220 - خلاصة حكم المحدث: [صحيح]
(6)الراوي: القاسم بن محمد بن أبي بكر المحدث: البخاري -
المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 7217 - خلاصة حكم المحدث: [صحيح].
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق