الأحد، 23 أكتوبر 2016

مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه 7





مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه 7 


حديث مقتل عمر رضي الله عنه :-  

رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل أن يصاب بأيام بالمدينة ، وقف على حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف قال : كيف فعلتما ، أتخافان أن تكونا قد حملتما الأرض ما لا تطيق ؟ قالا : حملناها أمرا هي له مطيقة ، ما فيها كبير فضل . قال : انظر أن تكونا حملتما الأرض ما لا تطيق ، قال : قالا : لا ، فقال عمر : لئن سلمني الله ، لأدعن أرامل أهل العراق لا يحتجن إلى رجل بعدي أبدا ، قال : فما أتت عليه إلا رابعة حتى أصيب ، قال : إني لقائم ما بيني وبينه إلا عبد الله بن عباس غداة أصيب ، وكان إذا مر بين الصفين قال : استووا ، حتى إذا لم ير فيهم خللا تقدم فكبر ، وربما قرأ سورة يوسف أو النحل أو نحو ذلك في الركعة الأولى حتى يجتمع الناس ، فما هو إلا أن كبر فسمعته يقول : قتلني - أو أكلني - الكلب ، حين طعنه ، فطار العلج بسكين ذات طرفين ، لا يمر على أحد يمينا ولا شمالا إلا طعنه ، حتى طعن ثلاثة عشر رجلا ، مات منهم سبعة ، فلما رأى ذلك رجل من
المسلمين طرح عليه برنسا ، فلما ظن العلج أنه مأخوذ نحر نفسه ، وتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف فقدمه ، فمن يلي عمر فقد رأى الذي أرى ، وأما نواحي المسجد فإنهم لا يدرون ، غير أنهم قد فقدوا صوت عمر ، وهم يقولون : سبحان الله سبحان الله ، فصلى بهم عبد الرحمن صلاة خفيفة ، فلما انصرفوا قال : يا ابن عباس ، انظر من قتلني ، فجال ساعة ثم جاء ، فقال : غلام المغيرة ، قال : الصنع ؟ قال : نعم ، قال : قاتله الله ، لقد أمرت به معروفا ، الحمد لله الذي لم يجعل ميتتي بيد رجل يدعي الإسلام ، قد كنت أنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة - وكان العباس أكثرهم رقيقا - فقال : إن شئت فعلت ، أي : إن شئت قتلنا ؟ قال : كذبت ، بعد ما تكلموا بلسانكم ، وصلوا قبلتكم ، وحجوا حجكم . فاحتمل إلى بيته ، فانطلقنا معه ، وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ ، فقائل يقول : لا بأس ، وقائل يقول : أخاف عليه ، فأتي بنبيذ فشربه ، فخرج من جوفه ، ثم أتي بلبن فشربه ، فخرج من جرحه ، فعلموا أنه ميت ، فدخلنا عليه ، وجاء الناس ، فجعلوا يثنون عليه ، وجاء رجل شاب فقال : أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك ، من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقدم في الإسلام ما قد علمت ، ثم وليت فعدلت ، ثم شهادة . قال : وددت أن ذلك كفاف لا علي ولا لي ، فلما أدبر إذا إزاره يمس الأرض ، قال : ردوا علي الغلام ، قال : ابن أخي ارفع ثوبك ، فإنه أنقى لثوبك ، وأتقى لربك . يا عبد الله بن عمر ، انظر ما علي من الدين ، فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفا أو نحوه ، قال : إن وفى له مال آل عمر فأده من أموالهم ، وإلا فسل في بني عدي بن كعب ، فإن لم تف أموالهم فسل في قريش ، ولا تعدهم إلى غيرهم ، فأد عني هذا المال . انطلق إلى عائشة أم المؤمنين ، فقل : يقرأ عليك عمر السلام ، ولا تقل أمير المؤمنين ، فإني لست اليوم للمؤمنين أميرا ، وقل : يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه . فسلم واستأذن ، ثم دخل عليها ، فوجدها قاعدة تبكي ، فقال : يقرأ عليك عمر بن الخطاب السلام ، ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه . فقالت : كنت أريده لنفسي ، ولأوثرن به اليوم على نفسي ، فلما أقبل ، قيل : هذا عبد الله بن عمر قد جاء ، قال : ارفعوني ، فأسنده رجل إليه ، فقال : ما لديك ؟ قال : الذي تحب يا أمير المؤمنين أذنت ، قال : الحمد لله ، ما كان من شيء أهم إلي من ذلك ، فإذا أنا قضيت فاحملوني ، ثم سلم ، فقل : يستأذن عمر بن الخطاب ، فإن أذنت لي فادخلوني ، وإن ردتني ردوني إلى مقابر المسلمين . وجاءت أم المؤمنين حفصة والنساء تسير معها ، فلما رأيناها قمنا ، فولجت عليه ، فبكت عنده ساعة ، واستأذن الرجال ، فولجت داخلا لهم ، فسمعنا بكاءها من الداخل ، فقالوا : أوص يا أمير المؤمنين استخلف ، قال : ما أجد أحدا أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر ، أو الرهط ، الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض ، فسمى عليا وعثمان والزبير وطلحة وسعدا وعبد الرحمن ، وقال : يشهدكم عبد الله بن عمر ، وليس له من الأمر شيء - كهيئة التعزية له - فإن أصابت الإمرة سعدا فهو ذاك ، وإلا فليستعن به أيكم ما أمر ، فإني لم أعزله عن عجز ولا خيانة . وقال : أوصي الخليفة من بعدي ، بالمهاجرين الأولين ، أن يعرف لهم حقهم ، ويحفظ لهم حرمتهم ، وأوصيه بالأنصار خيرا ، الذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم ، أن يقبل من محسنهم ، وأن يعفى عن مسيئهم ، وأوصيه بأهل الأمصار خيرا ، فإنهم ردء الإسلام ، وجباة المال ، وغيظ العدو ، وأن لا يؤخذ منهم إلا فضلهم عن رضاهم . وأوصيه بالأعراب خيرا ، فإنهم أصل العرب ، ومادة الإسلام ، أن يؤخذ من حواشي أموالهم ، ويرد على فقرائهم ، وأصيه بذمة الله تعالى ، وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم أن يوفى لهم بعهدهم ، وأن يقاتل من ورائهم ، ولا يكلفوا إلا طاقتهم . فلما قبض خرجنا به ، فانطلقنا نمشي ، فسلم عبد الله بن عمر قال : يستأذن عمر بن الخطاب ، قالت : أدخلوه ، فأدخل ، فوضع هنالك مع صاحبيه ، فلما فرغ من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط ، فقال عبد الرحمن : اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم ، فقال الزبير : قد جعلت أمري إلى علي ، فقال طلحة : قد جعلت أمري إلى عثمان ، وقال سعد : قد جعلت أمري إلى عبد الرحمن بن عوف . فقال عبد الرحمن : أيكما تبرأ من هذا الأمر ، فنجعله إليه والله عليه والإسلام ، لينظرن أفضلهم في نفسه ؟ فأسكت الشيخان ، فقال عبد الرحمن : أفتجعلونه إلي والله علي أن لا آلو عن أفضلكم ؟ قالا : نعم ، فأخذ بيد أحدهما فقال : لك قرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والقدم في الإسلام ما قد علمت ، فالله عليك لئن أمرتك لتعدلن ولئن أمرت عثمان لتسمعن ولتطيعن ، ثم خلا بالآخر فقال له مثل ذلك ، فلما أخذ الميثاق قال : ارفع يدك يا عثمان ، فبايعه ، فبايع له علي ، وولج أهل الدار فبايعوه .


الراوي : عمرو بن ميمون | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري
الصفحة أو الرقم: 3700 | خلاصة حكم المحدث : [صحيح] |



شرح الحديث


هذا الحديثُ في مَقتلِ عُمرَ بنِ الخطَّابِ رضيَ اللهُ عنه، وكانَ ذلكَ في أرْبَعٍ بقينَ مِن ذِي الحِجَّةِ سنةَ ثلاثٍ وعِشرينَ، وفيه يقولُ عَمرُو بنُ مَيمونَ راوي الحديثِ: إنَّهُ رأى عُمرَ قبلَ أنْ يُصابَ بأيَّامٍ في المدينةِ، ويَقصِدُ: قتْلَه رَضيَ اللهُ عنه، قال: وقَفَ عُمرُ على حُذَيفةَ بنِ اليَمانِ، وعُثمانَ بنِ حُنَيفٍ رضيَ اللهُ عنهما، يَسألُهُما: كيفَ فَعلتُما؟ أتَخافانِ أنْ تَكونا قدْ حمَّلْتُما الأَرضَ ما لا تُطيقُ؟ والمرادُ بوَقوفِ عُمرَ علَيهِما: أنَّ حُذَيفةَ وعُثمانَ رضِيَ اللهُ عنْهما كانا من عُمَّالِهِ على أرضِ العِراقِ، والمرادُ بـ"حَمَّلتُما الأَرضَ ما لا تُطيقُ ": فَرَضْتُما على أرض أهلِ العراقِ.
وكانَ عُمرُ رضيَ اللهُ عنهُ: بعَثَهما يَضرِبانِ الخراجَ والجِزيةَ على أهلِ العراقِ، فخَشِيَ عمرُ رضيَ اللهُ عنه أن يكونَا قد فَرضَا على أَهلِها ما لا يُطيقوهُ وليسَ لهم القُدرةُ على دَفعِهِ؛ فأَجابَهُ حُذَيفةُ وعُثمانُ بأنَّ أَهلَها لدَيْهِم القُدرةُ على دَفعِ ما فُرِضَ علَيهِم، وأنَّ ما فُرِضَ ليسَ فيه زِيادةٌ كثيرةٌ، فطلَبَ مِنهما عُمرُ رضيَ اللهُ عنه أنْ يُعيدَا النَّظرَ في سُؤالِهِ وإجابتِهما، وَهذا مِنْ بابِ الحَذَرِ والخَشيةِ مِن عُمرَ رضيَ اللهُ عنه أنْ يكونَ ظُلمٌ، ثمَّ وعدَ عُمرُ رضيَ اللهُ عنه إنْ سلَّمَهُ اللهُ ألا يدَعَ أراملَ العِراقِ في حاجةٍ لأَحدٍ بعدَه، و"الأَرْملةُ": هيَ مَن ماتَ زَوجُها، فما أَتى عليه أربعةُ أيَّامٍ مِن وَعْدِهِ هذا حتى أُصيبَ.
ثم حَكَى عَمرُو بنُ مَيمونَ كيفَ كانتْ إصابَتُهُ، فقال: إنَّهُ لقائمٌ في الصَّلاةِ وبينَهُ وبينَ عُمرَ رضيَ اللهُ عنه عبدُ اللهِ بنُ عبَّاسٍ رضيَ اللهُ عنْهما صباحَ يومِ مَقتَلِهِ رضيَ اللهُ عنه، وكانَ عمرُ رضيَ اللهُ عنه إذا مرَّ بينَ صفوفِ الصَّلاةِ، قالَ: اسْتَوُوا، أي: اعتَدِلوا في صُفوفِكم، حتى إنَّهُ رضيَ اللهُ عنه إذا لم يرَ في الصُّفوفِ خَللًا، أي: إذا استوتِ الصفوفُ ولم يكُنْ فيه فرجاتٌ بين المصلِّين، تقدَّمَ للإِمامةِ، وكبَّر للصَّلاةِ، ورُبَّما قرأَ سُورةَ يوسُفَ أو النَّحلِ أو نحوَ ذلكَ في الرَّكعةِ الأُولى حتى يجتَمِعَ الناسُ، فما هوَ إِلا أنْ كبَّرَ حتى طَعَنه القاتلُ، فقالَ عمرُ رضيَ اللهُ عنه حينَ طُعِنَ: قَتلني، أو أكَلني الكَلْبُ، وقولُهُ: (فطارَ العِلْجُ بِسِكِّينٍ ذاتِ طَرَفينِ، لا يمرُّ على أحدٍ يمينًا ولا شِمالًا إلا طَعَنهُ)، "العِلْجُ": الرَّجلُ من كفَّارِ العَجمِ، والمرادُ: فِرارُ القاتلِ حالَ طَعنِهِ عُمرَ رضيَ اللهُ عنه، وكانتْ معَهُ سِكِّينٌ ذاتُ طَرَفينِ لا يمُرُّ بأحدٍ إلَّا قتلَهُ حتى إنَّهُ طَعنَ ثلاثةَ عشرَ رجلًا، ماتَ مِنهمْ سَبعةٌ، فلمَّا رأى ذلكَ رجلٌ من المُسلمينَ طرحَ عليه بُرْنُسًا، أي: ليَمنعَهُ مِن طعنِ أحدٍ، و"البُرْنُسُ": رِداءٌ ذُو كُمَّينِ يتَّصِلُ به غِطاءٌ للرأسِ، وقولُهُ: (فلمَّا ظنَّ العِلْجُ أنَّهُ مأخوذٌ نَحَرَ نَفْسَه)، أي: فلمَّا علِمَ القاتلُ أنَّه قد تُمكِّنَ منهُ ولنْ يَستطيعَ الفِرارَ قتلَ نَفسَه، وتناوَلَ عمرُ حينَ طُعِنَ يدَ عبدِ الرَّحمنِ بنِ عَوفٍ رضيَ اللهُ عنه، وكانَ فيمَنْ يُصلِّي خلفَهُ فقدَّمَه للإِمامةِ مكانَه لاستِكمالِ الصَّلاةِ، وكانَ مَن يلي عُمرَ رضيَ اللهُ عنه رأى وعلِمَ ما حَصَلَ فلمْ يتأثَّروا بما تغيَّرَ في الإِمامةِ، وأمَّا مَن كانوا في نواحي المسجِدِ وبَعيدينَ عنه فتأثَّروا بفَقدِ صوتِ عُمرَ رضيَ اللهُ عنه، وهمْ يقولونَ: سُبحانَ اللهِ! سُبحانَ اللهِ! فصلَّى بهمْ عبدُ الرحمنِ صلاةً خفيفةً.
فلمَّا انصرفَ الناسُ مِن الصَّلاةِ طلَبَ عمرُ مِن عَبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ أنْ يَعرِفَ لهُ مَن قتَلَه، فجالَ ساعةً، أي: تأخَّرَ باحِثًا عمَّن هو، فجاءَهُ وقالَ لعُمرَ: غلامُ المُغيرةِ، فاستَوضَحَه عمرُ بقولِه: الصَّنَعُ؟ أي: الغُلامُ الصَّانِعُ، وقيلَ: كانَ غلامًا نجَّارًا، وقيلَ: غيرُ ذلكَ، فأجابَهُ ابنُ عبَّاسٍ، وقالَ: نعم.
فقالَ عمرُ: قاتَلَهُ الله! لقدْ أمرتُ بهِ مَعروفًا، أي: أَوصَيْتُ له بخيرٍ ومعروفٍ، ثمَّ حمِدَ عمرُ رضيَ اللهُ عنه ربَّهُ الذي لم يَجعلْ منِيَّتَه، أي: مَوتَهُ بيدِ رَجلٍ يدَّعي الإِسلامَ، ثمَّ وجَّهَ عُمرُ رضيَ اللهُ عنه كلِمَتَه إلى عبدِ اللهِ بنِ عباسٍ: قد كنتَ أَنتَ وأَبوكَ تُحِبَّانِ أنْ تَكثُرَ العُلوجُ بِالمدينةِ، ويَقصِدُ عمرُ رضيَ اللهُ عنه العبَّاسَ بنَ عبدِ المُطَّلِبِ؛ لأنَّه كانَ أكثرَ الصَّحابةِ رَقيقًا، فقالَ ابنُ عباسٍ: إنْ شئتَ فعلتُ، أي: قَتلْنا؟ فقالَ عمرُ: كذَبتَ! بعدَما تكَلَّموا بلِسانِكُمْ، وصلُّوا قِبلَتَكُمْ، وحجُّوا حجَّكمْ، أي بعدَ ما تكلَّموا العَربيَّةَ، وأَسلَموا، ويقالُ: إنَّ أهلَ الحِجازِ يقولونَ: كذَبتَ في موضعِ أَخطَأْتَ.
ثمَّ حُمِلَ عمرُ رضيَ اللهُ عنه إلى بيتِهِ وانطلقَ الناسُ معَهُ وكأنَّهمْ لم تُصبهُمْ مُصيبةٌ مِن قبلُ فمِنهم مَن يقولُ: لا بأسَ عليه. وآخرُ يقولُ: أخافُ عَليه، ثم إنَّهم أَتَوا لعُمرَ بِنبيذٍ فشرِبَه، فخرجَ مِن جَوفِهِ، ثمَّ أُتِيَ بلبنٍ فشَرِبَه، فخرجَ مِن جُرحِهِ، فعلِموا أنه ميِّتٌ، و"النَّبيذُ": نقيعُ التَّمرِ والزَّبيبِ قبلَ أنْ يشتدَّ ويُصبحُ مُسكِرًا، ويَقصِدُ بخروجِ النَّبيذِ مِن الجَوفِ، أي: مَوضعَ الجُرحِ، وقدْ شرِبَ لبنًا بعدَ النَّبيذِ ليتَبيَّنَ الخارجُ منَ الجُرحِ هلْ مشروبُه أم دَمُه، لأنَّهُ عندَ خُروجِ النَّبيذِ لم يَتبيَّنْ لونُه مِن لونِ الدَّمِ، فلمَّا شرِبَ اللبنَ ظهرَ بياضُهُ عندَ خُروجِهِ مِن مَوضعِ الجُرحِ، فعلِموا أنَّهُ ميِّتٌ على كلِّ حالٍ، فتوافَدَ الناسُ عليه بالثَّناءِ والدُّخولِ، ومِنهمْ رجلٌ شابٌّ فقالَ: (أَبشِرْ يا أميرَ المُؤمنينَ ببُشرى اللهِ لكَ، مِن صُحبةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقَدَمٍ في الإِسلامِ ما قدْ علِمتَ، ثم َّوَلِيتَ فعَدَلْتَ، ثمَّ شهادةٌ)، فردَّ عليه عمرُ رضيَ اللهُ عنهُ: ودِدتُ أنَّ ذلكَ كفافٌ لا عليَّ ولا لِيَّ، أي: إنَّ الذي أدَّيتُ يكونُ بقَدرِ الحاجةِ لا فضلَ فيهِ ولا نُقصانَ، وإِذ بالرجُلِ يُدبِرُ للذَّهابِ إذْ رأى عمرُ رضيَ اللهُ عنه إِزارَ الرجلِ يمَسُّ الأرضَ، فطلَبَ من الحاضرينَ أنْ يردُّوهُ علَيهِ، فلمَّا جاءَه، قالَ لهُ عمرُ: ابنَ أَخي، ارفَعْ ثوبَكَ، فإنَّهُ أنْقى لثَوبِكَ، أي: أَطهرُ لهُ ويَحفظُهُ مِن النَّجاساتِ، وأتْقى لربِّكَ،، لأنَّ فيه طاعةً للهِ، ثم طلبَ رضيَ اللهُ عنه مِن ابنِهِ عبدِ اللهِ بنِ عمرَ أنْ ينظُرَ ما عليه مِن دَينٍ، فحَسَبوهُ فوَجدُوهُ ستَّةً وثمانينَ ألفًا أو نحوَه، فحدَّدَ عمرُ رضيَ اللهُ عنه لهمْ كيفَ يكونُ سُدادُه، فبدأَ بمالِ آلِ عُمرَ، فإنْ لم يَقضِ فمنْ مالِ بني عَدِيِّ بنِ كعبٍ، وهُم العَدَوِيُّونَ وهمْ بطنٌ من قُريشٍ وعدِيٌّ الجدُّ الأعلى لعُمرَ، فإنْ لم يَقْضِ فمِن مالِ قريشٍ، وقولُهُ: (وَلا تَعْدُهُمْ إلى غَيرِهِمْ)، أي: لا تَتجاوَزْ ما حدَّدتُ لكَ في مُطالَبتِهم لسَدادِ الدَّينِ، ثمَّ طلبَ مِن عبدِ اللهِ بنِ عمرَ أنْ يذهبَ إلى عائشةَ رضيَ اللهُ عنْها يطلُبُ مِنها أنْ يُدفَنَ عُمرُ معَ صاحِبَيْهِ؛ الرسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأبي بكرٍ رضيَ اللهُ عنه، وكانتْ عائشةُ رضيَ اللهُ عنها تحتفِظُ لنفْسِها بقَبرٍ بجوارِهما فآثرتْ بهِ عُمرَ على نَفسِها، فقالَ عمرُ عِندَما أتتْه مُوافقتَها: الحمدُ للهِ، ما كانَ مِن شيءٍ أهمَّ إليَّ منْ ذلكَ، وهوَ أنْ يُدفَنَ بِجوارِ صاحِبيْهِ، ومعَ ذلكَ فقدْ خَشِيَ عمرُ رضيَ اللهُ عنه أن يكونَ مُوافقتُها تلكَ حياءً منهُ لصُدورِهِ في حياتِهِ وأنْ ترجِعَ بعدَ موتِهِ؛ ولذلكَ طلبَ من عبدِ اللهِ بنِ عُمرَ أنْ يُعيدَ علَيْها الإِذنَ بعدَ وَفاتهِ، وإلَّا رُدَّ لمقابرِ المسلمينَ، ويَقصدُ مدافنَ البقيعِ.
ثم أتتْ أمُّ المؤمنينَ حَفصةُ رضِي الله عنها والنِّساءُ تسيرُ معَها، قال: فلمَّا رأيناها قُمنا، فولَجتْ عليه، و"الوُلوجُ": الدخولُ، فبكتْ عِندَه ساعةً، فلمَّا استأذنَ الرِّجالُ، فولَجتْ داخلًا لهم، أي: دخَلَتْ حُجرةً أخرى في المكانِ الذي فيه عُمرُ رضيَ اللهُ عنه؛ لتُفسِحَ مكانًا للرِّجالِ. يقولُ عَمرُو بنُ مَيمونٍ: فسمِعْنا بكاءَها منَ الدَّاخلِ، ثمَّ طلبَ الرِّجالُ من عمرَ رضيَ اللهُ عنه أن يُوصيَ ويَستخْلِفَ رجلًا بعدَه، فترَكَ الأمرَ خِيارًا بينَ سِتَّةٍ مِن الصَّحابةِ وقالَ رضيَ اللهُ عنهُ: ما أَجِدُ أحدًا أحقَّ بِهذا الأمرِ مِن هؤلاءِ النَّفَرِ، أو الرَّهطِ، الذينَ تُوُفِّيَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهوَ عَنهمْ راضٍ، وهُمْ: عليُّ بنُ أَبي طالبٍ، وعثمانُ بنُ عفَّانَ، والزُّبيرُ بنُ العوَّامِ، وطَلحةُ بنُ عُبيدِ اللهِ، وسَعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ، وعبدُ الرحمنِ بنُ عوفٍ رضيَ اللهُ عنهم جميعًا. ثم قالَ رضيَ اللهُ عنهُ: (يَشهَدُكمْ عبدُ اللهِ بنُ عُمرَ، وليسَ له مِن الأمرِ شَيءٌ - كَهيْئةِ التَّعزِيةِ له-)، أي: ويَحضُرُكمْ عبدُ اللهِ بنُ عمرَ ليسَ لهُ مِن أمرِ الخِلافةِ شيءٌ، ثمَّ أَوصَى في سعدٍ إنْ كانتِ الإِمارةُ له فهوَ ذاكَ، أي: هوَ أهلٌ لها، وإلَّا فعَلى المُتبقِّينَ مِن السِّتَّةِ إن استُخلِفَ فليَستَعِنْ بسَعدٍ، وقوله: فإنِّي لم أعزِلْهُ عن عَجزٍ ولا خِيانةٍ.
وكانَ عُمرُ رضيَ اللهُ عنه قد عزَلَهُ عن الكُوفةِ، ثمَّ إنَّهُ رضيَ اللهُ عنه بعدَ أنِ استُخلِفَ في السِّتَّةِ المذكورينَ، أوْصى الخليفةَ بعدَهُ بالمُهاجِرينَ والأنصارِ وسائرِ أهلِ الأَمصارِ، والأَعرابِ، و"المِصْرُ": البلَدُ، والمرادُ: البُلدانُ الإِسلاميَّةُ التي فُتِحتْ، وقولُهُ في أهلِ الأَمصارِ: (فإنَّهمْ رِدْءُ الإِسلامِ، وجُباةُ المالِ، وغَيظُ العدُوِّ، وألَّا يُؤخذَ مِنهمْ إلَّا فَضلُهُمْ عنْ رِضاهُم)، أي: وَصيَّةُ عمرَ في أهلِ الأَمصارِ مِن أجلِ أنَّهمْ عونُ الإِسلامِ وقوَّتُه، وهمُ الذينَ يُجمعُ منهُم الأموالُ التي تُساعِدُ على نُموِّ الدَّولةِ، يَغيظونَ الأعداءَ بكَثرتِهمْ وشَوكتِهمْ.
وقولُه في أهلِ الأَعرابِ: (فإنَّهمْ أصلُ العَربِ، ومادَّةُ الإِسلامِ، أنْ يؤخذَ مِن حَواشي أَموالِهمْ، ويُرَدُّ على فُقرائِهمْ)، أي: هُم المُكَوِّنُ الرَّئيسُ الذي اعتَمدَ علَيهِم الإِسلامُ، وأنْ يُؤخذَ الوَسطُ من أَموالِهم، التي لَيستْ خَيرَها وليستْ أَسوَأَها، فيُرَدُّ على فُقرائِهمْ.
ثمَّ وصَّى بأهلِ الذِّمَّةِ وأنْ يُوفَى معَهم بقَدرِ ما لَهمْ من عَهدٍ، وإن قَصدَهُم عدُوٌّ قاتلَ المسلمينَ دُونَهمْ.
فلمَّا أنْ قُبِضَ عُمرُ رضيَ اللهُ عنه فأنفَذَ عبدُ اللهِ ولدُهُ وصِيَّتَه في سلامِهِ واسِتئذانِهِ لعائِشةَ رضيَ اللهُ عنه فدُفِنَ معَ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومعَ أبي بكرٍ رضيَ اللهُ عنه، فلمَّا أنْ فَرَغوا مِن دَفنهِ اجتَمَعَ السِّتَّةُ الذينَ أوْصى بهم عُمرُ رضيَ اللهُ عنه أن يكونَ الخليفةُ مِنهم، فقالَ عبدُ الرَّحمنِ بنُ عوفٍ رضيَ اللهُ عنهُ: اجْعلوا أمرَكمْ إلى ثلاثةٍ مِنكمْ، أي: أنْ يَختارَ ثلاثةٌ ثلاثةً غيرَهُمْ ومِنها ينتهي الأمرُ إلى واحدٍ، فانْتهى الأمرُ إلى عليِّ بنِ أَبي طالبٍ، وعُثمانَ بنِ عَفَّانَ، وعبدِ الرَّحمنِ بنِ عوفٍ، قالَ عبدُ الرَّحمنِ بنُ عوفٍ رضيَ اللهُ عنه مخاطِبًا عليًّا وعثمانَ رضيَ اللهُ عنهما: (أيُّكُما تبرَّأَ مِن هذا الأَمرِ، فنَجعلُه إليه، واللهُ علَيهِ والإسلامُ، لَيَنظُرَنَّ أَفضلَهُمْ في نَفْسِهِ؟)، أي: مَن مِنكما يَتبرَّأُ مِن أمرِ الخِلافةِ ويبتَعِدُ عنه فنَجعلُ الاختِيارَ بينَ الاثْنينِ المتبقِّيَيْنِ له، واللهُ رَقيبٌ عليه يُحاسِبُه على فِعلهِ، والإسلامُ حاكِمٌ عليه بأَحكامِهِ، ويَختارُ الأَفضلُ فيهما، فلم يُجِبْهُ الشَّيخانِ، أي: عَليٌّ وعثمانُ، فطلَبَ مِنهم ابنُ عَوفٍ أن يَجعلُوا الأمرَ إليه، على ألَّا يحيدَ عَنِ الحقِّ في اختِيارِ أَفْضلِهِما، فوافقَاه، فأخذَ بيدِ عليٍّ وخلا به، أي: انفردَ بهِ عنْ عُثمانَ وذكَّرَهُ بقَرابتِهِ مِن رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقَدَمِهِ في الإِسلامِ، ثمَّ أخَذَ عليه العهدَ: لئنْ أمَّرْتُكَ لتعدِلَنَّ، ولئنْ أمَّرْتَ عُثمانَ لتَسمعَنَّ ولتُطيعَنَّ، ثم فعلَ معَ عُثمانَ مِثلَ الذي فعلَ معَ عليٍّ، فلمَّا أخذَ عبدُ الرَّحمنِ مِنهُما الميثاقَ والعهدَ، قالَ: ارْفَعْ يدكَ يا عُثمانُ، فبايَعَه، ثمَّ ولَجَ أهلُ الدَّارِ فبايَعوه، والمرادُ بـ"أهلِ الدَّارِ": أهلُ المدينةِ، وتمَّت البيعةُ لعُثمانَ بنِ عفَّانَ رضيَ الله تعالى عنهُ.
وفي هذا الحديثِ: فضْلُ عُمرَ رضيَ اللهُ تعالَى عنه، وعَظيمُ شَفقتِه على المُسلِمين، وعَدلُه بين النَّاسِ جميعًا، حيثُ استَوْفى في وَصِيَّتهِ جميعَ الطَّوائفِ؛ لأنَّ الناسَ إمَّا مسلمٌ وإمَّا كافرٌ؛ فالكَافرُ إمَّا حَرْبِيٌّ ولا يُوصى بِهِ، وإمَّا ذِمِّيٌّ وقدْ ذكَرَه، والمسلِمُ إمَّا مُهاجِرِيٌّ أو أَنصارِيٌّ أو غيرُهما، وكلُّهمْ إمَّا بَدَوِيٌّ وإمَّا حَضرِيٌّ، وقدْ بيَّن الجميعَ.
وفيه: أنَّ الإمامَ والحاكِمَ مُستأمَنٌ على رعيَّتِه، وعليه أنْ يَسألَ ويتحرَّى عن أحوالِهم ولا يَظلُمهم.
وفيه: أنَّ الشُّورَى بين أهل الحَلِّ والعَقدِ في المُلمَّات سبيلٌ للخروجِ منها..











ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق